الحديث عن بدر وأهل بدر حديث عن التضحية والبطولة والفداء، وغزوة بدر مفخرة من مفاخرنا، وصفحة مشرقة في تاريخنا، ومجد رائع من أمجادنا، وذكراها يذكِّر الأحفاد بروائع الأجداد.
غزوة بدر تذكِّر المسلمين بشدة بأسهم وقوة إيمانهم، وعمق محبتهم لدينهم ونبيهم، كانت غزوة بدر تحولًا في تاريخ الإسلام.
وبدءًا لعهد جديد عهد المصاولة والدفاع، عهد التضحية والفداء، عهد مقارعة السيف بالسيف، والذود بالقوة عن مبادئ الإسلام ورسالة الإسلام، قال الشاعر:
كانت على الإسلام بدء تحرر *** من رقة الأصنام والأوثـان
الحـق فيها بالحقيقة ناطـق *** والسيف فيها ساطع البرهان
لا خير في حق إذا لم يحمـه *** حلق الحديد وألسن النيران
من لم يصنه من العداوة سلمه *** صانتـه قوته من العدوان
كان دور الشباب في غزوة بدر عظيمًا رائعًا يستحق العناية والتسجيل، يقف الإنسان أمام عظمة هذا الشباب وقفة إجلال وإكبار.
عجيب أمر هذا الشباب وقد كشرت لهم الحوادث عن أنيابها، وصبت عليهم قريش نيرانها، فما ضعفوا وما استكانوا.
نحن لا نفضل شباب بدر على شيوخها، فلكل منزلته ودرجته، للشباب جرأتهم وإقدامهم، وللشيوخ نصيحتهم وتربيتهم وحسن توجيههم وترجيح العقل على العاطفة.
كل من اشترك في بدر يستحق الدراسة والتأمل، حسبهم أن الله رفع ذكرهم وغفر ذنبهم، صدقوا الله في اللقاء فمنهم من أكرمه الله بالشهادة ففاز بخير الدنيا والآخرة.
ومنهم من طال به العمر فما غيَّر ولا بدَّل، وصدق الله العظيم إذ يقول: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].
في هذه العجالة لا نخص شباب بدر، ولكنا نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
1- علي بن أبي طالب:
كان-رضي الله عنه- سهمًا من سهام الإسلام، وسيفًا مسلولًا من أسيافه، يدوخ الجيوش ويحاصر المدن، ويلقي الرعب في قلوب الأعداء. كان-رضي الله عنه- من الرجال الذين لا تهزهم قواصم المحن، ولا ترهبهم ملاقاة الرجال، ولا يفت في عضدهم السيف، اشترك في جميع المعارك، وكان يخوضها غير هيَّاب ولا وجل.
في غزوة بدر:
كان صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم..
1- بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم مع الزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص-رضي الله عنهم أجمعين- إلى ماء بدر يلتمسون له الخبر، فأتوا بأسيرين قدموهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- عندما بدأت المعركة خرج عقبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، ودعوا إلى المبارزة، فخرج إليهم رجال من الأنصار، فرفضوا قتالهم، وطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث وعلي بن أبي طالب.
3- وانتصر المسلمون، وتخضبت الأرض بدماء المشركين، فكان أول الغيث، والضربة الأولى نصف المعركة[1].
2- عمير بن أبي وقاص: يعجب الإنسان وهو يطالع تاريخ هذا الشباب، كيف استطاعوا أن يحولوا مجرى التاريخ، وأن يسطروا أروع سطوره، ويشيدوا أضخم صرح شيدته الإنسانية قام على الإيمان والتقى!!
هؤلاء الشباب الذين لاقوا السيوف بصدورهم، والنبال بنحورهم، وكان الموت أحب إليهم من الحياة، وهذا شاب أكرمه الله بالشهادة، شاب سما الإيمان في قلبه، فاستهان بالحياة وأقبل على الموت بثغر باسم وصدر منشرح.
ولنستمع إلى قصته من أقرب الناس إليه، قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: رأيت أخي عميرًا يتوارى عن الناس، فقلت: ما لك يا أخي؟ قال: أخشى أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني فيردني.
وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني بالشهادة!! فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم استصغره فرده، فبكى، وتوسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجازه. يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: فكنت أعقد له حمائل سيفه لصغر سنِّه، فقاتل وقُتل وسنُّه يومئذ 16 سنة[2].
جدير بشبابنا أن يقف أمام هذه النماذج الرائعة، وأن يقلب صفحات هذا التاريخ المشرق؛ ليأخذ منه العظة والعبرة والقدوة الصالحة، وليرى كيف كان الشباب يفتح البلاد ولم يبلغ العشرين من عمره، ويقود الجيوش وما خطّ له شارب، ويأتي بما يشبه المعجزات وما يزال غض الإهاب.
3- مصعب بن عمير:
شاب في زهرة الشباب وميعة الصبا، عريض الأمل، واسع الرجاء، تجري الحياة في عروقه، يطوي مباهج الحياة، ويغضي عن زهرة الدنيا، ويضرب المثل الكريم للشجاع الأبي، ولا عجب إنها تربية النبوة وغرس الإسلام وشمائل الدين الحنيف.
ولد مصعب بن عمير في بيت من بيوت سراة عبد الدار، وشبَّ بين الترف واللهو، كان أعطر أهل مكة وأجملهم، يفيض تيهًا ودلالًا، يمر بين أحياء مكة فترمقه عيون فتيانها، ويسترعى منظره ساكنيها.
كان-رضي الله عنه- من الرعيل الأول، أسلم والدعوة في مهدها في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فأصابه شظف العيش ولأواء الحياة، وجهد جهدًا شديدًا حتى بدا عليه الضعف والهزال، فلم يضق بالحياة بل تحمل ذلك صابرًا أجمل صبر.
يقول ابن عبد البر في الاستيعاب: كان مصعب بن عمير فتى مكة شبابًا وجمالًا وتيهًا، وكان أبواه يحبانه، وكانت أمه تكسوه أحسن ما يكون من الثياب.
أوذي مصعب، وتبدَّل حاله من نعيم إلى بؤس، ومن غنى إلى فقر، ومن ملبس فاخر وركاب مرفه إلى ثوب مرقوع!!
يقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست إليه في المسجد وهو مع عصابة من أصحابه، فطلع علينا مصعب بن عمير في بردة مرقوعة بفروة غنم، وكان أنعم غلام بمكة، وأرفههم عيشًا.
فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ما كان فيه من النعم، ورأى حالته التي هو عليها، فذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"انظروا إلى هذا الذي نوَّر الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، ولقد رأيت عليه حلة اشتراها بمائتي درهم، فدعاه حب الله وحب رسوله إلى ما ترون"[3].
لما جاء وفد المدينة في موسم الحج، وعرض عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلموا، طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل معهم من يفقههم في الدين، ويُقرِئهم القرآن، فلم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم أمامه لهذه المهمة إلا مصعب بن عمير، فكان أول مبعوث لرسول الله صلى الله عليه وسلم خارج مكة.
وكان مصعب-رضي الله عنه- صالحًا: فأثمرت دعوته، مخلصًا: فالتقى الناس حوله، كان يُسمَّى "المقرئ" و"مصعب الخير"، وتتابعت حياته في صحائف ناصعة في التاريخ الإسلامي، وأُعلن الجهاد فحمل السيف مدافعًا عن دعوه الإسلام، ولكن الحياة لم تطل به، فقد استشهد في أُحد رضي الله عنه.
وجاءت غزوة بدر وكانت خيرًا وبركة على المسلمين، قتل المسلمون فيها من قتلوا، وأسروا من أسروا، وغنموا ما غنموا، وكان في الأسرى عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير وشقيقه، وكان موقف مصعب المؤمن من أخيه المشرك موقف المؤمن الذي لا يعرف إلا الإسلام رابطة.
قيل: إنه كان صاحب اللواء يوم بدر.
قال الطبري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأسارى، فرَّقهم في أصحابه وقال: "استوصوا بالأسارى خيرًا". قال: وكان أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسارى-
وكان الذي أسره يسمى أبا اليسر- قال أبو عزيز: مر بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني، فنظر إليه أبو عزيز، فقال مصعب لمن أسر أخاه: شد يديك به؛ فإن أمه ذات متاع، لعلها أن تفديه منك[4].
4- أبناء عفراء:
ربَّى الإسلام الشباب تربية عظيمة، وتعهده بالعناية والرعاية، تعهده منذ نعومة أظفاره، فشبَّ على العزة والكرامة والتضحية، شب في أحضان الإسلام مصونًا من أقذار الجاهلية، نظيفًا من أدران الوثنية.
إن أهل بدر لم يقاتلوا طمعًا في مال، ولا رغبة في جاه، ولا طلبًا للرئاسة، ولا حبًّا للدنيا، إنما عملوا لله وفي سبيل الله، فنصرهم الله {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].
يعجب الإنسان من أمر هذا الشباب فيتساءل: في أي مدرسة درجوا؟ وفي أي معهد درسوا؟ وفي أي جامعة تخرجوا؟
هؤلاء الذين انقضوا على أعدائهم كالصواعق المحرقة، أو الريح المدمرة، إيمانهم في قلوبهم، يتقدم أحدهم لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه.
عن عبد الرحمن بن عوف قال: إني لواقف يوم بدر في الصف، فنظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فتمنيت أن أكون بين أظلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم، أتعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، وما حاجتك به؟
قال: أُخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي أيضًا مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل وهو يجول في الناس.
فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكم الذي تسألان عنه. فابتدراه بسيفهما حتى قتلاه! ثم انصرفا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال: "أيكما قتله؟" فقال كل منهما: أنا قتلته. قال: "هل مسحتما سيفيكما؟" قالا: لا. قال: فنظر النبي صلى الله عليه وسلم في السيفين فقال: "كلاهما قتله". فقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والآخر معاذ بن عفراء[5].
وقال صاحب الفتح: وهما معاذ بن الجموح، ومعاذ بن عفراء. ثم قال: وعفراء والدة معاذ، واسم أبيه: الحارث. وأما ابن عمرو بن الجموح فليس اسم أمه عفراء، وإنما أطلق عليه تغليبًا.
إن غزوة بدر هزت المشركين واليهود والمنافقين هزًّا عنيفًا: قلبت أوضاعهم، وحطمت قوائمهم، وجعلتهم يراجعون تفكيرهم.
يا شباب، هذه نماذج من أجدادكم وأمثلة من آبائكم.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع
يا شباب، إن غزوة بدر كانت المقدمة لانتشار الإسلام في جزيرة العرب، بل مقدمة لتلك الإمبراطورية الإسلامية التي امتدت من أقصى بلاد الأندلس غربًا إلى حدود الصين شرقًا.
يا شباب، ادرسوا تاريخ أسلافكم؛ فهم المثل العليا، والقدوة الفاضلة.. إنهم عباقرة التاريخ الذين أخضعوا رقاب الجبابرة، وأرغموا أنف الحوادث، وساسوا الشعوب على أعدل نظام وأصلح حكم.
يا شباب، إن أسلافكم رخصت عليهم أنفسهم فخاضوا المخاطر، وذللوا الصعاب، وهدموا صرح الأعداء.
جدير بشبابنا أن يأخذوا من أسلافهم العظة والعبرة.
اذكروا أهل بدر؛ رجالها.. شبابها.. شهداءها. ورحم الله الشاعر:
شهداء بدر أنتم المثل الذي *** بلغ المدى بعد المدى فتناها
علمتم الناس الكفاح فأقبلوا *** ملء الحوادث يدفعون أذاها
أما الجهاد فقد قضيتم حقه *** وتركتموه شريعة نرضاهـا
من رام تفسير الحياة لقومه *** فدم الشهيد يبين عن معناها
[1] رواه الطبري في التاريخ.
[2] ذكره ابن حجر في الإصابة.
[3] ذكره ابن الأثير في أسد الغابة.
[4] الطبري وابن هشام.
[5] رواه ابن كثير.
الكاتب: علي أحمد علي
المصدر: مجلة الوعي الإسلامي، عدد 177، رمضان 1399هـ